حتى قبل اندلاع الحرب في السابع من تشرين الثاني 2023، كانت البنية التحتيّة للاتصال البعاديّ في غزة في حالة متردية جدًا، عكست عقودًا من القيود التي فرضتها إسرائيل، والتي أعاقت بشكل صارخ أيّ إمكانية للتقدّم والاتصال. كانت غزة قد صنّفت على أنّها المدينة الأكثر اكتظاظًا في العالم، حيث تعاق كل إمكانيات وسبل تطوير قطاع الاتصال من خلال سياسات إسرائيلية صمّمت خصيصًا لحرمان الفلسطينيّين من فرص التقدّم التكنولوجيّ، وهو أمر بديهيّ بالنسبة لمعظم دول العالم.
في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، فرضت إسرائيل سيطرتها على قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات منذ بدء احتلالها العسكريّ عام 1967. مع أنّه وفقًا لاتفاقيّات أوسلو، وهي اتفاقيّة مؤقّتة وقّعت بين ممثّلين إسرائيليّين وفلسطينيّين، نقلت إسرائيل جزءًا من هذه السيطرة إلى السلطة الفلسطينيّة في الضفة الغربيّة، ولكن ليس في القدس الشرقيّة وقطاع غزة. ولكن منذ اتفاقيّات أوسلو، أخفقت إسرائيل باستمرار في الامتثال للاتفاقيات التي كانت ستحقّق استقلاليّة قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الفلسطينيّ. بدلًا من ذلك، اقتصرت الإمكانيات المتاحة للفلسطينيّين في غزة على بنية تحتيّة للجيل الثاني للهواتف المحمولة، الأمر الذي يحول دون المناليّة الموثوقة للتطبيقات القائمة على استخدام الإنترنت، البيانات عالية السرعة أو أدوات الاتصال العصريّة. غزة هي أحد الأماكن الأخيرة على وجه الكرة الأرضيّة مع شبكة اتصال الجيل الثاني (2G). المنالية المنتظمة لخيارات وحلول الألياف الضوئيّة، الضروريّة للوسائل العصريّة للاتصال البعاديّ، مقيّدة هي أيضًا، وأيّ اتصال دوليّ يمرّ حتمًا عبر شبكات خاضعة للسيطرة الإسرائيليّة، الأمر الذي يجعل من الاتصالات في غزّة عرضة لحملات تشويش متعمّدة.
منذ السابع من تشرين الأول 2023، فاقمت الحرب من إنهاك هذه البنية التحتيّة الهشّة أساسًا. تشير التقديرات إلى أنّ %75 من البنيّة التحتيّة تضرّرت، و%50 منها دُمّرت بالكامل. بالإضافة إلى التعطيل المتكرّر لخدمات الاتصال، الأمر الذي أدّى في كثير من الأحيان إلى انقطاعها بالكامل. هذا الدمار ليس مجرّد ضرر تبعيّ لها الصراع، إنّما يعكس المساعي المتعمّدة لعزل غزّة عن العالم.
الاستهداف المتعمّد والتعطيل الكامل للبنية التحتيّة للاتصال كان، وما زال واضحًا للعيان طيلة فترة الحرب. المرافق الضروريّة للاتصال قُصفت بشكل مباشرة، الطواقم المكلّفة بالحفاظ على استمرارية الخدمات تعرّضت للاعتداء، وسعت السلطات الإسرائيليّة عمدًا لقطع الاتصال عن غزة، مبيّنة بذلك سهولة عزل غزّة عن العالم. الانقطاعات المتكرّرة للتيار الكهربائيّ، تهجير المدنيّين والعمليّات العسكريّة المنسّقة ساهمت في عزل الفلسطينيّين في غزة.
تبيّن الأضرار نمطًا واضحًا مقترنًا بتوزيع الهجمات الإسرائيليّة في مختلف أرجاء غزة. تكبّدت المناطق الشماليّة في غزة الأضرار الأولى، واتّسع نطاق الدمار لاحقًا ليصل إلى المناطق الوسطى والجنوبيّة. أسهمت هذه العمليّات في عزل غزّة عن العالم أكثر فأكثر، فقد أعيقت سبل الاتصال وتلقّي المعلومات الحيويّة وطلب المساعدة في إحدى الفترات الأشد ظلمًا وظلمةً في التاريخ.
انقطاع خدمات الاتصال البعاديّ حالَ أيضًا دون اطّلاع السكان على مصادر المعلومات الإلكترونيّة الموثوقة الوحيدة المتبقية، مثل الإعلام الإلكترونيّ ومنصّات المراسلة، خاصةً عقب إغلاق قنوات البثّ المحليّة ومقتل 180 صحافيًّا على الأقل، منذ بداية العمليّات العدائيّة . كانت لآثار انقطاع خدمات الاتصال البعاديّ آثار جسيمة على الحياة اليوميّة لأهالي غزّة، الذين لم يعد بمقدورهم الاتصال بخدمات الطوارئ وخدمات الإنقاذ، مما زادَ من عدد القتلى لاستحالة أو صعوبة الوصول إلى مراكز الاتصال التابعة لخدمات الطوارئ هذه. واجهت المنظّمات الإنسانيّة صعوبات جمّة في تقديم خدماتها، بينما تعرّض المدنيّون لضغوط نفسيّة هائلة لعدم قدرتهم على التواصل مع أقربائهم في ظل هذه الهجمات.
%75 على الأقل من البنية التحتيّة لاتصالات الهواتف المحمولة تضرّرت بسبب الحرب، ولحقت بالشبكة الرئيسيّة للألياف البصريّة أيضًا أضرار جسيمة، مما أثّر إلى درجة كبيرة على خدمات الإنترنت. لحقت بمراكز البيانات، محوّلات الشبكة والبنى التحتيّة أيضًا أضرار جسيمة، ونتيجة لذلك، لم يتبق في بعض المناطق سوى %25 من البنى التحتيّة الفعّالة. القيمة النقديّة لهذا الدمار تقدّر بنحو 90 مليون دوار أمريكيّ، بدون قيمة الأضرار التي لحقت بالبنى التحتيّة.
الوضع كارثيّ. مع انقطاع خطوط الاتصالات، تزداد عزلة السكان في غزة عن العالم الخارجيّ. فهم عاجزون عن مشاركة قصصهم، معرفة ما يحدث في العالم أو حتى طلب المساعدة. المنظّمات الإنسانيّة غير قادرة على تأدية عملها، تقديم المساعدة والوصول إلى من هم بأمس الحاجة للإغاثة. الكوادر الصحيّة غير قادرة على تأدية مهام حيويّة بسب انقطاع الاتصال مع أخصائيين طبيّين آخرين خارج البلاد. في غزة، يعجز الناس عن قول ما يحدث وتوثيق الجرائم والفظائع التي ترتكب هناك. المصالح التجاريّة، خاصة الشركات الناشئة وتلك المعتمدة على المنصّات الرقميّة، تعطّلت، والاقتصاد الهشّ منذ البداية يتكبّد أضرارًا هدّامة.
أصدر الاتحاد الدوليّ للاتصالات، وهي وكالة تابعة للأمم المتحدة ومتخصّصة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، قرارًا في حزيران 2024 بتقديم دعم للفلسطينيّين لإعادة بناء قطاع الاتصال البعاديّ. هذا القرار هو خطوة ضروريّة، ولكنّها لا تغني عن اتخاذ خطوات أخرى إضافيّة لاستعادة الاتصال. علينا السعي لتعبئة وحشد ائتلاف يضمّ مختلف الأطراف المعنيّة لضمان إعادة توصيل غزة بالعالم وسماع صوتها. نناشد الجهات المانحة الدوليّة والبعثات الدبلوماسيّة لممارسة جميع الضغوط اللازمة من أجل دعم مساعي شركات الاتصالات، مثل شركة الاتصالات الفلسطينيّة، جوال وأوريدو، ووزارة الاتصالات والاقتصاد الرقميّ في تحديد أولوياتها بخصوص استعادة الخدمات.
دوليًا، يتوجّب على الاتحاد الدوليّ للاتصالات تسهيل الدعم الفنيّ والماليّ، بينما يتوجّب على الحكومات ممارسة الضغوط الدبلوماسية، التمويل وتقديم الدعم الفنيّ. يتوجّب على وكالات الأمم المتحدة والهيئات الدوليّة دمج مهمّة ترميم واستعادة البنية التحتيّة الغزيّة للاتصال البعاديّ، في أجندتها الإنسانيّة والتنمويّة.
بالإضافة إلى هذه الجهود واسعة النطاق، نشجّع على اتخاذ خطوات عمليّة من شأنها خلق تغيير بشكل فوريّ. بفضل مبادرات التعهيد الجماهيريّ والتبرّع بشرائح E-SIM، حظي البعض في غزة بإمكانية الاتصال. ننادي بتقديم الدعم اللازم لتوزيع هواتف الأقمار الصناعيّة، والتنسيق مع الشركات التكنولوجيّة، اقتراح وتوفير حلول مؤقّتة، مثل النقاط الساخنة المتنقّلة للاتصال اللاسلكيّ. قد تضمن هذه الجهود استمرارية الاتصال، حتى في أسوأ الأحوال.
حملة "لنُعِد لغزّة صوتها" هي خطوة نحو استعادة الحق الأساسيّ في الاتصال لسكان غزّة الفلسطينيّين. ندعو جميع الأطراف المعنيّة للانضمام إلينا في هذه الجهود- في المناصرة، التبرع وإعادة الإعمار.
نظرًا لطبيعة الاتصال البعاديّ، المشتركة لمختلف القطاعات، فإنّ إعادة إعمار البنية التحتيّة للاتصال عن بعد في غزة يعتمد على وقف القتال بشكل مستدام، ترافقه تسوية سياسيّة طويلة الأجل.
وفي حين أنّ الحلول طويلة الأجل غير مؤكّدة بعد، يجب الحرص على تلبية الاحتياجات الفوريّة لأهالي غزّة، وذلك بواسطة بلورة حلول مؤقّتة. الهدف من وراء هذه التدخّلات هو الحفاظ على الاتصال ومنالية الخدمات الحيويّة وسط حالة الضبابيّة.
التدخّلات قريبة المدى ومتوسّطة المدى تتمحور حول استرجاع خدمات الاتصال الأساسيّة والعودة إلى مستويات الاتصال السابقة لفترة الحرب، وذلك بغية تلبية الاحتياجات الإنسانية الطارئة. الخطوات الرئيسيّة في هذا المضمار تشمل استعادة الخدمات الأساسيّة الحيويّة للهواتف المحمولة، مثل زيادة إمدادات الوقود لمزوّدي خدمة الاتصال البعاديّ، بتيسير من الأمم المتّحدة والمنظّمات الإنسانيّة الأخرى، وذلك لمتابعة تشغيل الشبكة وتوزيع نطاق الخدمة لتصل أكبر عدد ممكن من الأشخاص المحتاجين لها. توفير إنترنت عالي السرعة بواسطة حلول مؤقّتة، مثل توزيع نقاط ساخنة متنقّلة للاتصال اللاسلكي وخدمات الإنترنت عبر الأقمار الصناعيّة من شأنه ضمان الحفاظ على المستوى الأساسيّ من الاتصال لتلبية الاحتياجات المُلحة في مراكز الإيواء، المشافي، المدارس والمنظّمات الإنسانيّة. قد يُسهم ذلك في تنسيق جهود الإغاثة وتوفير خدمات حيويّة مثل التعليم عن بعد ومنصّات الخدمة الصحيّة عن بعد. مع تعطيل خدمات التربية والتعليم والرعاية الصحيّة، فإنّ الاتصال بالإنترنت سيتيح منصّات التعليم عن بعد للأطفال وتقديم الاستشارة الافتراضيّة في مجال الرعاية الصحيّة، الأمر الذي يسهم في ضمان الاستمراريّة إلى أن يُعاد إعمار البنية التحتيّة. أخيرًا وليس آخرًا، باستطاعة المنظّمات الإنسانيّة تحسين الاتصال عبر الهواتف المحمولة بغية تقديم الدعم عبر منصّات رقميّة، مثل القسائم الإكترونيّة أو الرموز التي ترسل مباشرةً إلى الهواتف المحمولة الخاصّة بالمواطنين. بالإمكان استخدامها لاسترجاع منتجات حيويّة لمتاجر البيع بالتجزئة أو مراكز التوزيع، لضمان وصول المساعدات للمحتاجين بسرعة وبنجاعة.
سيرورة التعافي بعيدة المدى من أجل مستقبل يتّسم بالمرونة والقدرة على التكيّف تُسهم في بناء تصوّر لغزّة آمنة ومُزدهرة، قادرة على الاستفادة من تقنيات اتصال متطوّرة مثل شبكة الجيش الخامس من أجل بناء مجتمع أقوى، أكثر مرونة وأكثر اتّصالًا. لن يقتصر ذلك على استبدال ما فُقدَ ودُمّرَ، إنّما أيضًا السعي لبناء قطاع فلسطينيّ مستقل للاتّصال البعاديّ - غير خاضع لسيطرة خارجيّة- قادر على توفير إنترنت موثوق وعالي السرعة للجميع. هذه الجهود تتطلّب استثمارًا كبيرًا من القطاع الخاص والمجتمع الدوليّ. لضمان اتصال مستدام، علينا أيضًا إعطاء أولويّة لحلول الطاقة المتجدّدة. يجب أيضًا حلّ إشكالية الانقطاع المتكرّر للتيار الكهربائيّ من خلال استخدام مصادر الطاقة المتجدّدة، إلى جانب أنظمة تخزين الطاقة، من أجل الاتصال المستدام خلال الأزمة. بالنسبة للمناطق التي تعرّضت فيها البنية التحتيّة تحت الأرض للدمار الشامل، فإنّ الاستثمار طويل الأجل في مجال الألياف الضوئيّة وشبكات الألياف الضوئيّة المنزليّة من شأنه ضمان منالية الإنترنت عالي السرعة، الأمر الذي يدعم سيرورة التعافي وإعادة الإعمار في جميع قطاعات المجتمع.
ولكنّنا لا نستطيع تحقيق ذلك بمفردنا. نحن بحاجة لدعمكم لكيّ لا تُترَك غزّة غارقة في الظلام، وليتمكّن الناس من التواصل مع العالم. نناشدكم للانضمام إلينا في مطلبنا بتوفير أحدث التقنيات، وبقطاع اتصالات مستقلّ، واتخاذ إجراء فوريّ لاستعادة الاتصال ومساندة مساعي الإغاثة الإنسانيّة. وقّعوا العريضة، انشروا الكلمة وادعمونا في حملة "لنُعِد لغزّ صوتها" لأنّ صوتكم قادر على التأثير، وكلّ اتصال يُحدث فَرقًا. لنبنِ معًا مستقبلًا أكثر إشراقًا لغزة، مستقبلًا أكثر إشراقًا لفلسطين.